فصل: تفسير الآيات (1- 5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (139- 149):

{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)}
{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين} وقرئ بكسر النون.
{إِذْ أَبَقَ} هرب، وأصله الهرب من السيد لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه حسن إطلاقه عليه. {إِلَى الفلك المشحون} المملوء.
{فساهم} فقارع أهله. {فَكَانَ مِنَ المدحضين} فصار من المغلوبين بالقرعة، وأصله المزلق عن مقام الظفر. روي أنه لما وعد قومه بالعذاب خرج من بينهم قبل أن يأمره الله، فركب السفينة فوقفت فقالوا: هاهنا عبد آبق فاقترعوا فخرجت القرعة عليه، فقال أنا الآبق ورمى بنفسه في الماء.
{فالتقمه الحوت} فابتلعه من اللقمة. {وَهُوَ مُلِيمٌ} داخل في الملامة، أو آت بما يلام عليها أو مليم نفسه، وقرئ بالفتح مبنياً من ليم كمشيب في مشوب.
{فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} الذاكرين الله كثيراً بالتسبيح مدة عمره، أو في بطن الحوت وهو قوله: {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين} وقيل من المصلين.
{لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} حياً وقيل ميتاً، وفيه حث على إكثار الذكر وتعظيم لشأنه، ومن أقبل عليه في السراء أخذ بيده عند الضراء.
{فنبذناه} بأن حملنا الحوت على لفظه. {بالعراء} بالمكان الخالي غما يغطيه من شجر أو نبت. روي أن الحوت سار مع السفينة رافعاً رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح حتى انتهوا إلى البر فلفظه، واختلف في مدة لبثه فقيل بعض يوم وقيل ثلاثة أيام وقيل سبعة، وقيل عشرون وقيل أربعون. {وَهُوَ سَقِيمٌ} مما ناله قيل صار بدنه كبدن الطفل حين يولد.
{وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ} أي فوقه مظلة عليه. {شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ} من شجر ينبسط على وجه الأرض ولا يقوم على ساقه، يفعيل من قطن بالمكان إذا أقام به، والأكثر على أنها كانت الدباء غطته بأوراقها عن الذباب فإنه لا يقع عليه، ويدل عليه أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتحب القرع، قال: «أجل هي شجرة أخي يونس» وقيل التين وقيل الموز تغطى بورقه واستظل بأغصانه وأفطر على ثماره.
{وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ} هم قومه الذين هرب عنهم وهم أهل نينوى، والمراد به ما سبق من إرساله أو إرسال ثان إليهم أو إلى غيرهم. {أَوْ يَزِيدُونَ} في مرأى الناظر أي إذا نظر إليهم، قال هم مائة ألف أو يزيدون والمراد الوصف بالكثرة وقرئ بالواو.
{فَئَامِنُواْ} فصدقوه أو فجددوا الإِيمان به بمحضره. {فمتعناهم إلى حِينٍ} إلى أجلهم المسمى، ولعله إنما لم يختم قصته وقصة لوط بما ختم به سائر القصص تفرقة بينهما وبين أرباب الشرائع الكبر وأولى العزم من الرسل، أو اكتفاء بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكورين في آخر السورة.
{فاستفتهم أَلِرَبّكَ البنات وَلَهُمُ البنون} معطوف على مثله، في أول السورة أمر رسوله أولاً باستفتاء قريش عن وجه إنكارهم البعث، وساق الكلام في تقريره جاراً لما يلائمه من القصص موصولاً بعضها ببعض، ثم أمر باستفتائهم عن وجه القسمة حيث جعلوا لله البنات ولأنفسهم البنين في قولهم: الملائكة بنات الله، وهؤلاء زادوا على الشرك ضلالات أخر، التجسيم وتجويز الفناء على الله تعالى، فإن الولادة مخصوصة بالأجسام الكائنة الفاسدة، وتفضيل أنفسهم عليه حيث جعلوا أوضع الجنسين له وأرفعهما لهم، واستهانتهم بالملائكة حيث أنثوهم ولذلك كرر الله تعالى إنكار ذلك وإبطاله في كتابه مراراً، وجعله مما {تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً} والإِنكار هاهنا مقصور على الأخيرين لاختصاص هذه الطائفة بهما، أو لأن فسادهما مما تدركه العامة بمقتضى طباعهم حيث جعل المعادل للاستفهام عن التقسيم.

.تفسير الآيات (150- 163):

{أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)}
{أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إناثا وَهُمْ شاهدون} وإنما خص علم المشاهدة لأن أمثال ذلك لا تعلم إلا بها، فإن الأنوثة ليست من لوازم ذاتهم لتمكن معرفته بالعقل الصرف مع ما فيه من الاستهزاء، والإشعار بأنهم لفرط جهلهم يبتون به كأنهم قد شاهدوا خلقهم.
{أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله} لعدم ما يقتضيه وقيام ما ينفيه. {وَإِنَّهُمْ لكاذبون} فيما يتدينون به، وقرئ: {وَلَدَ الله} أي الملائكة ولده، فعل بمعنى مفعول يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث.
{أَصْطَفَى البنات على البنين} استفهام إنكار واستبعاد، والاصطفاء أخذ صفوة الشيء، وعن نافع كسر الهمزة على حذف حرف الاستفهام لدلالة أم بعدها عليها أو على الإِثبات بإضمار القول أي: لكاذبون في قولهم اصطفى، أو إبداله من {وَلَدَ الله}.
{مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} بما لا يرتضيه عقل.
{أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أنه منزه عن ذلك.
{أَمْ لَكُمْ سلطان مُّبِينٌ} حجة واضحة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بناته.
{فَأْتُواْ بكتابكم} الذي أنزل عليكم. {إِن كُنتُمْ صادقين} في دعواكم.
{وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} يعني الملائكة ذكرهم باسم جنسهم وضعاً منهم أن يبلغوا هذه المرتبة، وقيل قالوا إن الله تعالى صاهر الجن فخرجت الملائكة، وقيل قالوا الله والشياطين إخوان. {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ} إن الكفرة أو الإِنس والجن إن فسرت بغير الملائكة {لَمُحْضَرُونَ} في العذاب.
{سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ} من الولد والنسب.
{إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} استثناء من المحضرين منقطع، أو متصل إن فسر الضمير بما يعمهم وما بينهما اعتراض أو من {يَصِفُونَ}.
{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} عود إلى خطابهم.
{مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} على الله. {بفاتنين} مفسدين الناس بالإِغواء.
{إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم} إِلاَّ من سبق في علمه أنه من أهل النار ويصلاها لا محالة، {وَأَنتُمْ} ضمير لهم ولآلهتهم غلب فيه المخاطب على الغائب، ويجوز أن يكون {وَمَا تَعْبُدُونَ} لما فيه من معنى المقارنة ساداً مسد الخبر أي إنكم وآلهتكم قرناء لا تزالون تعبدونها، ما أنتم على ما تعبدونه بفاتنين بباعثين على طريق الفتنة إلا ضالاً مستوجباً للنار مثلكم، وقرئ: {صَال} بالضم على أنه جمع محمول على معنى من ساقط واوه لالتقاء الساكنين، أو تخفيف صائل على القلب كشاك في شائك، أو المحذوف منه كالمنسي كما في قولهم: ما باليت به بالة، فإن أصلها بالية كعافية.

.تفسير الآيات (164- 179):

{وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)}
{وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} حكاية اعتراف الملائكة بالعبودية للرد على عبدتهم والمعنى: وما منا أحد إلا له مقام معلوم في المعرفة والعبادة والانتهاء إلى أمر الله في تدبير العالم، ويحتمل أن يكون هذا وما قبله من قوله: {سبحان الله} من كلامهم ليتصل بقوله: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة} كأنه قال ولقد علمت الملائكة أن المشركين معذبون بذلك وقالوا: {سبحان الله} تنزيهاً له عنه، ثم استثنوا {المخلصين} تبرئة لهم منه، ثم خاطبوا المشركين بأن الافتتان بذلك للشقاوة المقدرة، ثم اعترفوا بالعبودية وتفاوت مراتبهم فيه لا يتجاوزونها فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه.
{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون} في أداء الطاعة ومنازل الخدمة.
{وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون} المنزهون الله عما لا يليق به، ولعل الأول إشارة إلى درجاتهم في الطاعة وهذا في المعارف، وما في إن واللام وتوسيط الفصل من التأكيد والاختصاص لأنهم المواظبون على ذلك دائماً من غير فترة دون غيرهم. وقيل هو من كلام النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنين والمعنى: وما منا إلا له مقام معلوم في الجنة أو بين يدي الله يوم القيامة، {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون} له في الصلاة والمنزهون له عن السوء.
{وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ} أي مشركوا قريش.
{لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الأولين} كتاباً من الكتب التي نزلت عليهم.
{لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين} لأخلصنا العبادة له ولم نخالف مثلهم.
{فَكَفَرُواْ بِهِ} أي لما جاءهم الذكر الذي هو أشرف الأذكار والمهيمن عليها. {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} عاقبة كفرهم.
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين} أي وعدنا لهم النصر والغلبة وهو قوله: {إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون}.
{وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} وهو باعتبار الغالب والمقضي بالذات، وإنما سماه كلمة وهي كلمات لانتظامهم في معنى واحد.
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} فأعرض عنهم. {حتى حِينٍ} هو الموعد لنصرك عليهم وهو يوم بدر، وقيل يوم الفتح.
{وَأَبْصِرْهُمْ} على ما ينالهم حينئذ والمراد بالأمر الدلالة على أن ذلك كائن قريب كأنه قدامه. {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} ما قضينا لك من التأييد والنصرة والثواب في الآخرة، و{سوف} للوعيد لا للتبعيد.
{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} روي أنه لما نزل {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} قالوا متى هذا فنزلت.
{فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} فإذا نزل العذاب بفنائهم، شبهه بجيش هجمهم فأناخ بفنائهم بغتة، وقيل الرسول وقرئ: {نَزَّلَ} على إسناده إلى الجار والمجرور و{نَزَّلَ} أي العذاب. {فَسَاء صَبَاحُ المنذرين} فبئس صباح المنذرين صباحهم، واللام للجنس وال {صَبَاحُ} مستعار من صباح الجيش المبيت لوقت نزول العذاب، ولما كثر فيهم الهجوم والغارة في الصباح سموا الغارة صباحاً وإن وقعت في وقت آخر.
{وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} تأكيد إلى تأكيد وإطلاق بعد تقييد للاشعار بأنه يبصر وأنهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من أصناف المسرة وأنواع المساءة، أو الأول لعذاب الدنيا والثاني لعذاب الآخرة.

.تفسير الآيات (180- 182):

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)}
{سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ} عما قاله المشركون فيه على ما حكي في السورة، وإضافة الرب إلى العزة لاختصاصها به إذ لا عزة إلا له أو لمن أعزه، وقد أدرج فيه جملة صفاته السلبية والثبوتية مع الإِشعار بالتوحيد.
{وسلام على المرسلين} تعميم للرسل بالتسليم بعد تخصيص بعضهم.
{والحمد للَّهِ رَبّ العالمين} على ما أفاض عليهم وعلى من اتبعهم من النعم وحسن العاقبة ولذلك أخره عن التسليم، والمراد تعليم المؤمنين كيف يحمدونه ويسلمون على رسله. وعن علي رضي الله عنه: من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه من مجلسه: سبحان ربك إلى آخر السورة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ والصافات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل جني وشيطان، وتباعدت عنه مردة الجن والشياطين، وبرئ من الشرك وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمناً بالمرسلين».

.سورة ص:

مكية وآيها ست أو ثمان وثمانون آية.

.تفسير الآيات (1- 5):

{ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)}
{ص} وقرئ بالكسر لالتقاء الساكنين، وقيل إنه أمر من المصاداة بمعنى المعارضة، ومنه الصدى فإنه يعارض الصوت الأول أي عارض القرآن بعملك، وبالفتح لذلك أو لحذف حرف القسم وإيصال فعله إليه، أو إضماره والفتح في موضع الجر فإنها غير مصروفة لأنها علم السورة وبالجر والتنوين على تأويل الكتاب. {والقرءان ذِى الذَّكْرِ} الواو للقسم إن جعل {ص} اسماً للحرف أو مذكور للتحدي، أو للرمز بكلام مثل صدق محمد عليه الصلاة والسلام، أو للسورة خبر المحذوف أو لفظ الأمر، وللعطف إن جعل مقسماً به كقولهم: الله لأفعلن بالجر والجواب محذوف دل عليه ما في {ص} من الدلالة على التحدي، أو الأمر بالمعادلة أي إنه لمعجز أو لواجب العمل به، أو إن محمداً صادق أو قوله: {بَلِ الذين كَفَرُواْ} أي ما كفر به من كفر لخلل وجده فيه {بَلِ الذين كَفَرُواْ} به. {فِى عِزَّةٍ} أي استكبار عن الحق. {وَشِقَاقٍ} خلاف لله ورسوله ولذلك كفروا به، وعلى الأولين الإِضراب أيضاً من الجواب المقدر ولكن من حيث إشعاره بذلك والمراد بالذكر العظة أو الشرف والشهره، أو ذكر ما يحتاج اليه في الدين من العقائد والشرائع والمواعيد، والتنكير في {عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} للدلالة على شدتهما، وقرئ في {غرة} أي غفلة عما يجب عليهم النظر فيه.
{كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ} وعيد لهم على كفرهم به استكباراً وشقاقاً. {فَنَادَوْاْ} استغاثة أو توبة أو استغفاراً. {وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} أي ليس الحين حين مناص، ولا هي المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث للتأكيد كما زيدت على رب، وثم خصت بلزوم الأحيان وحذف أحد المعمولين، وقيل هي النافية للجنس أي ولا حين مناص لهم، وقيل للفعل والنصب بإضماره أي ولا أرى حين مناص، وقرئ بالرفع على أنه اسم لا أو مبتدأ محذوف الخبر أي ليس حين مناص حاصلاً لهم، أو لا حين مناص كائن لهم وبالكسر كقوله:
طَلَبُوا صُلْحَنَا وَلاَتَ أَوان ** فَأَجَبْنَا أَنَّ لاَتَ حِينَ بَقَاءِ

إما لأن لات تجر الأحيان كما أن لولا تجر الضمائر في قوله:
لَوْلاَكَ هَذَا العَامُ لَمْ أَحْجُج

أو لأن أوان شبه بإذ لأنه مقطوع عن الإِضافة إذ أصله أوان صلح، ثم حمل عليه {مَنَاصٍ} تنزيلاً لما أضيف إليه الظرف منزلته لما بينهما من الاتحاد، إذ أصله يحن مناصهم ثم بني الحين لإضافته إلى غير متمكن {وَّلاَتَ} بالكسر كجير، وتقف الكوفية عليها بالهاء كالأسماء والبصرية بالتاء كالأفعال. وقيل إن التاء مزيدة على حين لاتصالها به في الامام ولا يرد عليه أن خط المصحف خارج عن القياس إذ مثله لم يعهد فيه، والأصل اعتباره إلا فيما خصه الدليل ولقوله:
العَاطِفُونَ تَحِينَ لاَ مِنْ عَاطِف ** وَالُمْطعُمونَ زَمَانَ مَا مِنْ مُطْعمِ

والمناص المنجا من ناصه ينوصه إذا فاته.
{وَعَجِبُواْ أَن جَاءَهُم مٌّنذِرٌ مّنْهُمْ} بشر مثلهم أو أمي من عدادهم. {وَقَالَ الكافرون} وضع فيه الظاهر موضع الضمير غضباً عليهم وذماً لهم، وإشعاراً بأن كفرهم جسرهم على هذا القول. {هذا ساحر} فِيمَا يظهره معجزة. {كَذَّابٌ} فيما يقوله على الله تعالى.
{أَجَعَلَ الآلهة إلها واحدا} بأن جعل الألوهية التي كانت لهم لواحد. {إِنَّ هذا لَشَئ عُجَابٌ} بليغ في العجب فإنه خلاف ما أطبق عليه آباؤنا، وما نشاهده من أن الواحد لا يفي علمه وقدرته بالأشياء الكثيرة، وقرئ مشدداً وهو أبلغ ككرام وكرام. وروي أنه لما أسلم عمر رضي الله عنه شق ذلك على قريش، فأتوا أبا طالب وقالوا أنت شيخنا وكبيرنا، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وإنا جئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فاستحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل عليهم، فقال عليه الصلاة والسلام: ماذا يسألونني، فقالوا: ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك، فقال: «أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أمعطي أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم»، فقالوا: نعم وعشراً، فقال: «قولوا لا إله إلا الله»، فقاموا وقالوا ذلك.